Total Pageviews

Thursday 17 December 2009

أقصّ عليكم حكايتين:حكاية عن جميلة بوحيرد وأخرى عن مصطفى الأشرف

أقواس
أقصّ عليكم حكايتين:حكاية عن جميلة بوحيرد وأخرى عن مصطفى الأشرف
2009.12.16
بقلم: الدكتور أمين الزاوي

حكاية مصطفى الأشرف كان ذلك قبل وفاته بقليل، زرت المفكر والكاتب والمجاهد مصطفى الأشرف /1917 2007 ، لم يكن السائق يعرف البيت، وحين دخلنا حي وادي حيدرة سألنا عنه بعض الساكنة وبعض المارة، ولكن لا أحد استطاع أن يدلنا على بيته، لكننا حين سألنا عن اسم أحد المطاعم التي بجوار بيته، كما قيل لنا، كان الجواب سريعاوبالإجماع.

الجميع يعرف اسم المطعم "لا داعي لذكر اسم هذا المطعم" ولا أحد يستدل على بيت مصطفى الأشرف، بعجب وألم تساءلت:ما هذا الزمن، يا ربي، فبدلا من أن يكون بيت مصطفى الأشرف هو الذي يعلم الفضاء ويستدل به الناس للوصول إلى أي مقصد أو مؤسسة، انقلب العالم فأضحى المطعم هو الذي يعلم ويدل على بيت المفكر والإعلامي والمجاهد. ما هو الأصل وما هوالفرع؟
حزنت لهذا الحال الذي تبدو فيه القيم مقلوبة، رأسا على عقب.
وعثرنا، بعد مشقة، على شقة الأستاذ المفكر مصطفى الأشرف، ابن سيدي عيسى.
عند عتبة الباب، استقبلتنا زوجته في رقتها وبشاشتها، على الطريقة الشامية العريقة، عرفت فيما بعد أن حرمه من عرب أمريكا الجنوبية وهي ذات أصول لبنانية.
لا يهم كانت الغرفة المتواضعة التي استقبلنا فيها عبارة عن صالون-مكتبة، استطعت، دون أن أغادر مكاني، أن أميّز بعض العناوين البادية على رفوفها، كتب ومراجع ومصادر باللغات العربية والفرنسية والاسبانية. وبدأ حديثنا الذي لم يجد في انطلاقه صعوبة، سوى صعوبة في ضعف في السمع الذي كان يعانيه، كان المفكر والسياسي
والإعلامي ورجل الدولة مصطفى الأشرف يتكلم تارة بالفرنسية وطورا بعربية رائعة وصافية تنزل من متون سيدي عبد الرحمن الثعالبي ومنفصاحة ابن محرز الوهراني.
تحدث مصطفى الأشرف بكثير من الثقة عن مستقبل الجزائر وفي الوقت نفسه عن خوفه من شيء اسمه النسيان، وهو آفة الجزائريين. وتحدث أيضا عن "التجارة الجديدة" الرابحة سياسيا وماليا وهي تجارة "الدين السياسي". كان من الدعاة المتحمسين إلى إخراج الدين من اللعبة السياسية. وعلى الرغم من سنه المتقدم وقد أشرف على التسعين وعلى الرغم من عطب في جهاز السمع لديه، إلا أنه كان يتحدث بصفاء ذهني خارق وذاكرة لا تغفل عن الصغير قبل الكبير.
كانت زوجته بين الحديث تارة والصمت تارة أخرى كأنما تخفي جرحا أو سرا تريد أن تفشي به، ومع كأس شاي وحديث لم ينقطع عن سير الشعراء والمؤرخين والفلاسفة، شرقا وغربا، حكت لنا زوجته حكايتها التي كانت تقبض عليها كما تقبض على الجمرة.
... وقالت السيدة الأشرف:
لقد ذهبت قبل أيام إلى صندوق الضمان الاجتماعي لمتابعة ملف زوجي مصطفى الأشرف، كسائر المواطنين انتظرت في طابور المنتظرين ما كتب لي أن أنتظر
وكنت سعيدة أن أكون مثل الجميع، وحين حان دوري وتقدمت أمام شباك يجلس خلفه شاب، يجلس بدوره خلف جهاز كمبيوتر، ناولته بعض الأوراق، دون أن يلتفت إلي، نقر الشاب بعض نقرات على لوحة الكمبيوتر ثم رفع رأسه بهدوء ونظر إلي قائلا:
- سيدتي إن هذا السيد المدعو الأشرف مصطفى مقيّد لدينا في سجل الوفيات.
تحركت الأرض من تحتي، دارت بي دورتين أو أكثر، ثم خاطبته:
- لقد تركت، على التو، هذا السيد: مصطفى الأشرف والذي هو زوجي في المنزل حيا، بين كتبه وفي كامل صحته، اللهم إلا إذا كنت أنت عزرائيل خاطف الأرواح وقد خطفتها منه الآن وفي غيابي.
لم ينتبه الشاب إلى كلامي، لم يعره كبير اهتمام، ولم يحركه تعليقي نهائيا ولا أدرك من هو هذا الشخص المقصود في هذا الاسم: مصطفى الأشرف؟.

ثم قال:
- سيدتي، بالنسبة لنا نحن، إن هذا السيد يعتبر متوفى.
تذكرت هذه الحكاية وأنا أقرا رسالة المناضلة السيدة جميلة بوحيرد التي وجهتها إلى رئيس الجمهورية، هذه الرسالة ذكرتني بحكاية كانت قد حكتها لي السيدة
والمناضلة الأولى جميلة بوحيرد نفسها قبل أقل من سنة.

حكاية جميلة بوحيرد:

حكت لي المجاهدة الأولى هذه الحكاية عقب إحدى جلسات أشغال اللجنة الشعبية لمساندة شعب غزة والتي أنشئت عشية الاعتداء الإسرائيلي على قطاع غزة والتي كانت بمبادرة من جريدة الشروق وأطراف أخرى، وقد اختيرت المجاهدة جميلة بوحيرد وبالإجماع رئيسة شرفية لهذه اللجنة.
قالت جميلة:
أوقفني، ذات يوم، شاب من شباب شرطة المرور وطلب مني وثائق السيارة وحين سلمته ما طلب وبدأ يقرأ وإذ أدرك أن أوراق السيارة باسم "جميلة بوحيرد". التفت إلي وقال لي بنوع من الثقة بالنفس كمن اكتشف مجرما متلبسا بجريمة موصوفة
وعلى المباشر:
- إنك متنكرة في اسم الشهيدة "جميلة بوحيرد" والتي أعطت حياتها من أجل حرية الجزائر. أنت متنكرة في اسم لغيرك وهذه ليست أوراقك الثبوتية إنها لشهيدة نكبرها كثيرا، وهذا التصرف يعاقب عليه القانون، خاصة إذا كان الاسم لعظيمة من شهدائنا الأبرار.
وعلى الفور سحب مني أوراق السيارة وأمرني بالذهاب إلى المخفر، حاولت أن أشرح له بأنني أنا هي "جميلة بوحيرد" ولكنه لم يعرني انتباها، لا لشيء إلا لأنه كان مقتنعا بأنني يجب أن أكون مع الأموات من الشهداء، وحين تعقدت الأمور وطال انتظاري وهو يهاتف مسؤوليه، اضطررت إلى الاستنجاد ببعض معارفي لكي يشرحوا لهذا الشاب بأن السيدة التي في "قبضته" ليست متلبسة في اسم غير اسمها، بل إنها هي جميلة بوحيرد لحما ودما. طلبت مساعدة ممن يشهد بأنني لا زلت حية وأنني لست متنكرة في اسم غير اسمي. وأن الوثائق الثبوتية التي بين يدي الشاب هي وثائقي وهي صحيحة وصادقة.
الذين ماتوا قبل موتهم
ما مغزى هاتين الحكايتين يا ترى؟
إنني هنا لا أريد أن أتحدث عن الجانب المادي للمجاهدين وذوي الحقوق، فتلك أمور يمكن حلها ببساطة وبقرار فوقي حاسم، والجزائر بلد المال الكثير، ولكن ما هو معقد وإشكالي ومؤلم في الحكايتين هو ما تتعرض له رموزنا من موت بطيء، موت سببه عطب كبير قائم في آلية توصيل ثقافتنا التاريخية إلى الجيل الجديد، إذ لا يمكن لهذه الرموز بكل أسطوريتها أن تتحوّل إلى قيمة حقيقية في المواطنة وفي ثقافة المقاومة اليومية في غياب تواصل فاعل ووازن بين اليوم والأمس وغد.
إن حكاية مصطفى الأشرف وحكاية جميلة بوحيرد مع الجيل الجديد صورة ضاجة عن رعب التخريب الذي لحق ويلحق بالذاكرة الوطنية. إننا لم نحسن حتى الآن تدريس تاريخنا لأبنائنا، ولا نعرف كيف نقدم عظمة أسمائنا بعيدا عن الفلكلوروية
والابتذال والاحتفالية.
أمام هاتين الحكايتين بكل فجائيتهما، أشعر وكأن الجيل الجديد يتقدم في الظلام، يتقدم دون سند، دون سور حقيقي يحميه ويشد هامته.
إننا جميعنا مسؤولون عن هذا الوضع.
أمام هذا الخراب، إننا جميعا مدانون لتردي الحال: المثقف والسياسي والمربي والجامعي.
إن حكايتين لرمزين من رموز تاريخ الثورة وبهذه الفجائعية تجعل الحسرة كبيرة والخوف أكبر.
إن أسطورة حية مثل جميلة بوحيرد كان يجب أن تكون دائما في المقعد الأول للسلطة الجزائرية مهما اختلف الحكام لأنها فوق الأنظمة وفوق الموسميات السياسية.
كنا ننتظر انتاج مسرحيات كثيرة وكتب وسمفونيات عن السيدة الرمز جميلة بوحيرد، كنا ننتظر ذلك بدلا من أن نقرأ رسالة تطلب فيها المساعدة للعلاج. وهي علاجنا الأكبر حين تدلهم الأوقات بنا، في جزائر تنهض من عثرتها ومن دمها ومن فوضاها.
كنا ننتظر أن يقرر كتاب"الجزائر أمة ومجتمع" بدلا من أن يقتل المفكر حيا. إننا ننتظر اليوم الذي يحتفل فيه الجزائري الجديد من جيل الطلبة والباحثين بقراءة كتاب لمصطفى الأشرف بدلا من أن نقتله قبل مماته.
(Des noms et des lieux)
أعلام ومواقع
كنا ننتظر أن تنشئ الجزائر مركز بحث للدراسات التاريخية أو متحفا أو أكثر خاصا بالثورة الجزائرية يسمى باسم جميلة بوحيرد لتزهو وتنعم وتسعد بذلك
وهي لا تزال بيننا بدلا أن نقرأ في جرائدنا نص رسالة استغاثة.
يا جميلة، يا سيدتي أنت غيثنا.
كنا نتمنى لو أن الجزائر الثقافية والجامعية نظمت ندوة عالمية عن المفكر مصطفى الأشرف بدلا من تلك العشرات بل المئات من النشاطات التنشيطوية التي تنظم هنا وهناك من هذه الجهة أو تلك والتي تساهم كثيرا في زرع بذور الشك في الهوية وتكرس الخوف من المستقبل وتنزل الستارة على الماضي المتنور كنا نتمنى أن نجد هذه الأسطورة التي تمشي على رجليها الناعمتين، أن نجد جميلة بوحيرد والتي أصبحت قصيدة على فم أكثر من ثلاثمائة شاعر، بكل اللغات، كنا نتمنى أن نجد ظلها البهي في نص من نصوص كتب المدارس.
كنا نتمنى أن نشاهد فيلما عن اختطاف طائرة الزعماء كي نكتشف من هو مصطفى الأشرف وأحمد بن بلة وآيت أحمد ومحمد بوضياف ومحمد خيضر.. كي نكتشف الجزائر العظيمة...
كنا نتمنى لو أننا صنعنا فيلما أو أكثر يكون على مقاس أسطورة اسمها جميلة بوحيرد وفي مستواها كي ننسى فيلم "جميلة" ليوسف شاهين البسيط والساذج عن هذه البطلة المركبة والعميقة، والذي يعود الحديث عنه في كل مناسبة وبغير مناسبة، مع كل الاحترام لروح هذا المخرج الكبير.
أطالب اليوم ونحن أمام هذا الذي يجري من موت أساطيرنا على المباشر، موت آخر، أن نعتذر لهذه المجاهدة وذلك المفكر.
أما حان الوقت، أو إنه متأخر كثيرا، على تأسيس "جائزة الدولة التقديرية للرموز" وأن تكون جميلة بوحيرد أول من يسند إليها هذا الوسام.
وباسم المثقفين والكتاب في الجزائر المعاصرة نقدم اعتذارنا للمناضلة والأسطورة الحيّة جميلة بوحيرد، وباسمهم جميعا أقدم للمفكر مصطفى الأشرف وهو في العالم الآخر الاعتذار أيضا.
لقد أسأنا إليك يا سيدتي كثيرا كثيرا، فسامحينا، سامحينا، سامحينا، أيتها الكبيرة دائما.
لقد أسأنا إليك سيدي كثيرا كثيرا فسامحنا، سامحنا، سامحنا، يا أيها الحكيم النائم في الملكوت.

No comments: