Total Pageviews

Wednesday 4 May 2011

يا عصافير الربيع... لا تنتحري

يا عصافير الربيع... لا تنتحري!!
2011.05.02
نذير مصمودي



قال لي شاب وأنا أحاوره على الفايس بوك: أتمنّى أن تنخفص أسعار البنزين حتى أتمكن من حرق نفسي بسعر زهيد، وأتخلص من الحياة في هذا الوطن الذي تحول إلى وحش يأكل من لحمي ودمي وأعصابي!!

وتساءلت مندهشا: أي وضع نفسي وعصبّي وصل إليه هذا الشاب الكئيب حتى يكره التراب الذي ولد فيه، ويتحيّن الفرصة للفرار منه حتى لو كان ذلك يعني المجازفة بالحياة أو الموت المؤكد؟ هل أصبح هذا الوطن في نظر الأجيال الجديدة خارج الأمكنة التي تستحق أن يعيش فيها الإنسان أو يعيش من أجلها؟ ما الذي أطفأ عاطفة حب الوطن لدى هؤلاء الشباب، وجعلهم يكرهون ما لا ينبغي أن يكره، أو يتوجّسون مما لا خوف منه؟ وكيف ننظر إلى من يقدم على إحراق نفسه لهذه العلة؟ هل ننظر إليه نظرة صارمة على اعتباره مذنبا وشاذّا عن العرف والتقاليد الفاضلة، أم نرسل إليه نظرة عطف ورحمة على حساب أنه مريض؟ لكن في كلتا الحالتين، هل يمكن إخلاء من دفعه إلى الانتحار من

المسؤولية الجنائية وتركه طليقا دون أية مؤاخذة؟


كرهتك يا وطن!!


حاولت مع شاب آخر، أن أرطب جفاف كرهه لوطنه، برشحات من المعاني الندية التي شربها جيلنا مع حليب الأم، والتي جعلتنا أكثر قدرة على حبّ هذا الوطن والبقاء فيه ومن أجله، رغم الفقر الذي لم يخدش شيئا من جلاله في أعيننا، والتعب الذي لم يغضّ بريقا من كبريائه في نظرنا، والمرض الذي لم ينقص ذرة من حبنا له، لكن هذا الشاب نظر إليّ في ضيق، ثم قال وهو يتخبّط في دماء كلماته كالديك المذبوح: أيّ وطن هذا الذي تتحدث عنه يا عمي النذير؟ أي وطن هذا الذي تعلمنا في مدارسه وجامعاته، ثم حولنا إلى أميّين لا نعرف القراءة والكتابة من طول تسكعنا على الأرصفة وجلوسنا في المقاهي؟ أيّ وطن هذا الذي أصبح الحصول فيه على وظيفة أصعب من الحصول على جائزة نوبل؟ أي وطن هذا الذي نموت فيه جوعا ولحم الضأن تأكله الكلاب؟ أيّ وطن هذا الذي يصطاد عصافير ربيعه ويضعها في الأقفاص ويمنعها من أن تغرّد أو تطير؟ أي وطن هذا الذي يأخذ أكسجين شبابنا، ويعطينا بدله ثاني أوكسيد الكربون، ويبقينا بهذه المعادلة الظالمة أنصاف ميّتين بسبب اختلال التوازن في طبيعة الغلاف الهوائي الذي نحيا في جوّه الخانق؟


النظام وليس الوطن
فلتت مني دمعة وأنا أستمع لهذا الكلام المنطقي والحزين، وساءلت نفسي: إذا كان حب الوطن من البداهات التي يدركها الإنسان بفطرته، ويهتدي إليها بطبيعته، فما الذي يمكن أن يمسخ هذه الفطرة النقية، ويخلّف فيها من العلل ما يجعلها تعاف العذب الصافي، وتسيغ المرّ الفجّ؟!
لا شك أنها البيئة المحيطة، والنظام الحاكم في أيّ وطن، هو الجزء الأكبر من هذه البيئة المؤثرة، وليس من المعقول أن نسلخه من مسؤوليته في تشويه صورة الوطن لدى الأجيال الجديدة، ومسخ حبهم له في الأفئدة.
إن هذا النظام بفساده في الجزائر، والذي ظل منذ الاستقلال يزحم حياة مواطنيه بالظلم و"الحڤرة" ويملأ مشاعرهم باليأس والإحباط، وينتزع منهم كل شعور يتجه بهم إلى الكرامة والشرف، هو الذي جعل عواطف الأجيال الجديدة، تجيش بالقلق والسخط والوحشة، وعلّق قلوب سوادهم الأعظم بغير هذا الوطن، ودفعهم إلى شد الرحال إلى ما وراء بحره، حيث العدالة والرفاهية والكرامة والمرحمة.
لقد عشت عشر سنوات في أوربا متنقلا بين عواصمها في إطار وظيفة إعلامية كنت أؤديها، ورأيت بعيني كيف أن للإنسان في تلك الأوطان قيمة، وكيف أن الأدلة هناك ناطقة بأن الأنظمة جاءت بداهة لخدمة مواطنيها، مُحبَّةً للعدل، كارهةً للظلم، مفعمة بالقوة والإنتاج حسب قواعد مدروسة وقوانين مأنوسة.
فكيف لا تتجه أنظار شبابنا إلى هذه الآفاق الباسمة المشرقة، إذا كانت الآفاق في أوطانها مظلمة وداكنة؟ كيف يفهم بعض من لم يجد ما يسدّ به رمقه وفي خزينة الدولة أكثر من 200 مليار دولار؟ كيف لا ينفجر من لا يصحّ له مقعد في الحافلة وسيارة "الفراري" تقودها إبنة مسؤل لم تتجاوز العشرين؟ كيف لا يفكر في الانتحار من عجز عن تحليق شعره بمئة دينار وزوجة أحد المسؤولين تصفّف شعرها في باريس كل أسبوع؟


كيف لا يموت غيظا من يرى مسؤولا يخصص لكلبه غرفة مريحة، وهو ينام مع أخوته بالتناوب من شدة الضيق؟
قال لي أحدهم وفي حلقه غُصّة: إذا كان الزمان والمكان الذي نولد فيه لا يَدَ لنا فيه، فمن حقنا أن نغير ذلك عندما نكبر، بما فيه الجنسية التي ننتمي إليها، واللغة التي ننطق بها، وكل الخصائص التي لم يكن لنا في صغرنا يد فيها!!
وتساءلت مرة أخرى: إذا كان النظام الفاسد هو مصدر ما وقع فيه أولادنا من عناء، والسبب المباشر فيما نرى من أحوالهم التعيسة، فلماذا نراه جزءا من القضاء والقدر الذي لا يرد؟
أليس هذا المنطق، هو أقرب إلى ثرثرة المشركين المغفلين الذين قالوا في الاعتذار عن ضلالهم: "لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا"؟ فلماذا نعتبر إرادتنا في التغيير مقيّدة، ونغضّ من قيمة ما قرره قرآننا عندما قال: "إن اللّه لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم"؟.

خلاصة
إن الانتحار ليس حلاّ، والهجرة الجماعية ليست حلاّ، واستمرار النظام في وضع رأسه كالنعامة في الرمل ليس حلاّ، وسنظل نحن والنظام بهذه الحلول الموهومة كالأحمق الذي يضع طربوشه في رجله، ويضع حذاءه على دماغه!!
أما أنا فأكرر ما قلته قبل عشرين سنة:
نحن الشعوب وانتحر يا هُبلْ
وانجل يا ظلام بفجرنا فاكتحلْ.

No comments: